2022/09/08

محاولة مرتبكة في تقديم كتاب "طينيات" لسعيف علي


 

يطرح كتاب سعيف قضية معرفية في محاولة لتعريف الشعر، فقد وسم المؤلف كتابه منذ البداية بأنه شعر ثم تدخُل المتن فتقف على نصوص منثورة ذات طابع سردي تخالف المألوف من الشّعر المنثور القائم على نظام السّطر حيث السّرد هو اللون الغالب وعلى الصورة الشعرية البسيطة أو المركبة وعلى العلاقات المعجمية المخالفة للدلالات الوضعية.

قد تجد كل هذه الأشياء ما عدا نظام السطر وحيث السرد هو الغالب على قماشة النص. بيد أن هذا السرد على درجة كبيرة من ضمور الحدث حتى يصبح ذلك الحدث لا أهمية له، متمثلا في عناصر محدودة جدا من المعجم كبعض الأفعال أو ما يشي بالزّمان والمكان.
ففي النص الأوّل المعنون "منمنمات لنصف وجه" يتقدّم النص على واجهتين أو مسلكين يؤسّس أحدهما متنا ويؤسّس الآخر ما يشبه الحاشية عليه: هو متضمّن ما يشبه الحكاية حيث يخرج المتحدّث إليه (ضمير الخطاب) من صفته ليدخل في صفة الغريب، يذهب في رحلة طويلة نحدس في غير يقين أنّها رحلة الكتابة. ويتقدّم النّص في إهاب كثيف من المجازات والكنايات التي لا مفاتيح لها وانزياحات لا رجوع لها على متن ترسانة من العلاقات الغريبة بين مفردات المعجم.
هذه الرحلة يحدوها البحث عما يمكن أن يُكتب وعن الأحوال المنتظرة المنتابة لمقترف الكتابة ممّا يجعل هذا الفعل في النهاية مخاطرة ومغامرة في الوجود.
وكتاب طينيات ليس باكورة الإنتاج لدى سعيف عليّ فقد أصدر قبل هذا آثارا في الشّعر والقصة داخل تونس وخارجها، فالرجل قد تمرّس بالكتابة وخبرها وأخذت تجربته تتّضح في اتجاه الأشكال الوجيزة من النصوص الأدبية سردا وشعرا.
وكتاب الحال "طينيات" لو حاولنا تصنيف النّصوص التي تضمّنها داخل منظومة الأجناس الأدبيّة لوجدناها أميل إلى جنس القول الشعريّ (بعبارة الفارابي) منها إلى السّرد، وإن تضمّنت على نحو ما بعض ملامح القصّ كما في النّصّ الأوّل "منمنمات"
في النّصّ الأوّل من الكتاب إلى حدود الصّفحة الرّابعة والسّتّين تتّخذ النّصوص من النّاحية التيبوغرافية طابع الصّفحة الملآى، ثم تتّخذ النّصوص بعد ذلك نظام السّطر الشّعريّ. لكن اختلاف الشّكل التّيبوغرافي لم يغير من طبيعة القول كما سنرى لاحقا.
ونأخذ النّصّ الأوّل بشيء من التّمعّن على سبيل النّموذج، فهو له صفة الفاتحة، وربّما تضمّن رؤية الكاتب لفعل الكتابة وبالتّالي فنحن نحدس أنّ له صفة تأسيسيّة ما.
يتضمّن "نمنمات لنصف وجه" ما يشبه الحكاية حيث يخرج المتحدّث إليه (ضمير الخطاب) من صفته أيْ من وضعه الأونطولوجي الأوّل ليدخل في وضع جديد هو وضع الغريب (الذي قد يؤوّل على أنه الكاتب أو متعاطي الأدب، يسافر في رحلة طويلة نحدس في غير يقين أنّها رحلة الكتابة). ويتقدّم النّص في إهاب كثيف من المجازات والكنايات التي لا مفاتيح لها وانزياحات لا رجوع منها إلى مراجعها ... يتقدم بواسطة ترسانة من العلاقات الغريبة بين مفردات المعجم.
هذا الرحالة يحدوه محاولة الكشف عما يمكن أن يكون موضوعا للكتابة وعن الأحوال المتوقعة المنتابة لمن يقترف الكتابة وعن الدّور الذي قد يضلع به، ممّا يجعل الكتابة في النّهاية مخاطرة أو مغامرة وجوديّة تطال العمق الأونطولوجي للإنسان.
أمّا النّصّ الذي بدا لنا كالحاشية على النّصّ الأوّل فإنّه معزول بصريّا في فضاء القوسين يتخلّل المتن ويقطعه إلى فقرات ويمثل في علاقته به ما يشبه الشّرح الغامض أو التّعليق. هاهنا تصرف غريب في فضاءات النّصّ: فإنّ ما يُدعى عادة "Paratexte فضاؤه في تخوم النّصّ المقيمة في أوّله (مداخل ومقدمات وإهداءات...) أو في أسفل الصّفحة (إحالات وشروح وتصويبات...) أو في آخره ( ذيول وفهارس وتعقيبات...) مخالف للمتن تيبوغرافيا ومعجميا لا يمازجه حتى دلاليا.
إنّ ما تحدّثنا عنه من دلالات متعلقة بما يمكن أن يكون محمولا دلاليّا للنّصّ مجرّد انطباع محاط بالرّيب، ذلك أنّ الكتابة عند سعيف عليّ في هذا المؤلف منخرطة في الاتّجاه السّوريالي. هذا المنهاج في الكتابة يقتضي التّحرّر من كلّ البُنى المنطقيّة للذّهن أو في الحلم أو في الهذيان la déraison، le délire وهذا يقتضي بالتّبعيّة أن يتجاوز الكاتب جميع القيم الجماليّة المشتركة والقيم الأخلاقية والسّياسية والثّقافية المتعارف عليها
نقرأ في نصّ "غسيل اللذة": ص 52
"لم يتوقع أبدا أن هديل حمامة أغنية تأتي من صدد القصص المائلة. اقتحم بالصّوت المتعاقب كلّ تخوم العشق ثمّ أعلن أنّ النّور خواء، أعلن من زاوية ينفرج على النّجم قطيع من بقر وحشيّ.
يصيح، يحرس ماء البئر مثل دجاج أحمر لم يبض، لكنّه حين يأتي الفجر بحليب النّوق، يأتي بخبز لا يتكسّر في الأكل، يقول، يرفع ألواحا تأكلها الأرضة: عودي إلى الماء، عودي على غصن كسّرته آنية الفخار الممطرة، بكلّ سرّ عابثة"
فأنت في هذا القول قد تجد المحلّات الإعرابية في صلب الجملة قد ملئت بطريقة تركيبيّة تستجيب للقاعدة النّحوية، بيد أن العلاقات المعجمية في صلب النّص يعتريها التّنافر والغموض، تنسف مبدأ الانسجام النّاظم للكلام ليكون ذا معنى قابل للتلقّي والتّفكيك وتحصيل المعنى.
هذا الغياب أو هذا التّغييب فإنّه مؤدّ إلى نسف العلاقات المنطقيّة في الخطاب... كأن ترى التّعاقب الزّمني أو التّزامن أو الغاية بين ( يصيح/ و يحرس) أو النّتيجة بين (يصبح/ ويأتي) وهو ما تسعى إلى إقامته الكتابة السّوريالية من تجاوز للبنى المنطقيّة وطلب اللامعنى، فالكتابة عند سعيف في هذا المؤلف تحترم البُنى التّركيبية للجملة العربيّة وقد تخالفها أو تتجاوزها فالجملة تخضع نسبيّا إلى مبدإ الانسجام في العلاقات في المستوى التّوزيعيّ للكلام، لكنّ الانسجام في هذا المستوى غير كاف لإحداث التّواصل ويقتضي انسجاما آخر في المستوى الاستبداليّ حيث يكون القارئ قادرا على إنجاز علاقات حقيقيّة أو مجازيّة بين الاستبدالين المتجاورين ، فمن الصعب مثلا أن تقف على علاقة بين (صدد/ و القصّ) أو بين ( (القصص و المائلة)، كما أنّ ما طمح إليه الكاتب من تصوير بواسطة التّشبيه ينأى كلّ النّأي عن الاعتبارات الجماليّة السّارية، فانظر إلى هذا التشبيه الغريب واحص مردوده من التّقريب بين بين شيئين ومن الجمال على حد سواء:
"يحرس ماءَ البئر مثل دجاج أحمر لم يبض" (ص 52)
وانظر أيضا إلى هذا التّنافر المؤدّي إلى تلاشي المعنى وانعدامه في قوله: "قالت سيرة رجل كبرى إنّه اقترب من عطش امرأة حيث وُلدت الشّمس بلا ثلج" (ص127) .
مثل هذا التّنافر المؤدّي إلى اللّامعنى لاحظناه في النّصوص الوجيزة كما لاحظناه في النّصوص الطوال (ص67) حيث تنتشر الجملة عبر علاقات انزياحيّة لا يمكن ردّها إلى المنطق التّواصليّ بسهولة، فنقرأ في نصّ: "بيان الغياب ... انثيال" غياب المسند إليه وإمكانيات تأويله بين أنتَ وأنتِ وهي وبين الأمر والماضي المسند إلى الغائب المذكر ولا يسعفك السّياق بعد ذلك لتتأكّد من وجهة الخطاب فتظل هذه الوجهة مفتوحة على كل تأويل ويظل التأويل دون حدود... وهو التّوجه الذي تحدّث فيه "أمبيرتو إيكو" ونادى بكبح جماح التّأويل مقاومة لتلاشي الدّلالة.
اقرأ:
"بعد بيان مقتضب لحصيلة غياب طويل وفي آخر جدول حسابات متورّم بالثقل "راقب" (أمر أم ماض؟) الوجه الصحو بحذر "ترقق"(أنت/ هي؟) في انثيال الضوء انهمر (الإسناد؟) على صفة اللغة حين يكون ماء مطر صيفيّ تعلق بالرّؤية اللازمة سدّد على صفة الوقوف في محطة الظلال المربعة..."
إن مثل هذه العلاقات بين مفردات المعجم في الفضاء التّوزيعي للجملة قد جعل الكاتب ربّما يبحث عن أداء معنى منفلت زائغ وشريد يجتهد في طلبه ويحاصره فلا يضبطه. هذه الممارسة نتج عنها جمل متضخّمة طويلة تجاوزت ثلاثا وعشرين كلمة في مواقع كثيرة منها:
"هل تذكرين مجازك الأوّل وأنت تقفين مشدوهة بين يديْ أمّك وهي تطرّز إزارا بخيط حريريّ فسفوريّ يخرج كلّ ليلة حين يغادر المصباح الحجرة"
بيد أنّ القراءة إن انفلتت والمعنى إن ساح وتشرّد وغامت مقروئيّة النّصّ فإنّ نصوصا كثيرة أخرى أمكن للقارئ أن يحصل منها على صور ممكنة الإدراك:
"البحر اختفى في زرقة السّماء
لم تعرف السّمكة العوة إليه بعد تحليق صغير بجناح مرتجف
وحده الليل اكتشف أنّ وراء السّتار
كانت الشّمس تضحك على الجميع( ص 124) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق